في المقال السابق تطرقنا إلى موضوع القدوة وأهميتها التربوية، ودورها في إعداد الجيل القادم لتحمل المسؤولية. و تحتفل الدولة هذا الأسبوع بذكرى مولد القدوة المطلقة لنا كمسلمين ألا وهو سيدُ وَلدِ آدم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام. وإذا كان غير الرسول عليه السلام يؤخذ من كلامه ويرد كما قال إمام دار الهجرة مالك رحمه الله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة المطلقة الذي نبعت منه شتى الصور الحسنة. فهو اليد الجامعة لمعاني الخير والصلاح وبقية من تميز في جانب من جوانب الخير إنما يمثل إصبعا أو جزءاً من هذا الإصبع في اليد الكريمة.
وما أجمل أن يستعرض الناس سِير الناجحين في الحياة بقصد التأسي بهم، وعندها نعلم علم اليقين أن سيرة الرسول عليه السلام هي المدرسة الواجب اتباعها، وهو النهج الملزم لمن أراد التميز والنجاح في الدنيا والآخرة لسبب بسيط جدا، فهو بشر كما وصفه القرآن الكريم. لذلك فليس من الصعب على البشر التأسي به في معظم الحالات "قل إنما أنا بشر مثلكم" سورة الكهف. نشأ يتيما كي لا يقول المرجفون إنه تكون في أسرة متميزة، ومن هنا نرى أنه من الواجب على الإنسان ألا يتعذر كثيرا ببداياته أو ظروفه المعيشية أو التربية التي نشأ فيها، فالإنسان أقوى من أن تهيمن عليه الظروف بل هو من يصنع له بيئة النجاح. هذا اليتيم عليه السلام كان ذا خلق وهذه المدرسة الثانية في حياته عليه السلام، وهذا ما يفتقده كثير من المسلمين اليوم بل وحتى بعض المتدينين. وما أجمل ثناء الرب سبحانه على نبيه بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم" سورة القلم. ووصفه أنس رضي الله عنه بقوله "كان رسول الله عليه السلام أحسن الناس خلقا". وجاء عند الترمذي في الحديث الحسن الصحيح "ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق".
بدأ صلى الله عليه وسلم حياته بالجد والتعب، فرعى الغنم وكان يسافر في تجارة من مكة إلى الشام، لأن الجد والتعب هما شعار من أراد التميز كما قالت العرب:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
فلو شاء الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجلس وينفق عليه أهله لفعل. فهم من رؤوس قريش كما نعلم.
ومن هديه عليه الصلاة والسلام حتى قبل البعثة الاعتناء بالبعد الروحي في الإنسان فكان يعتزل الناس في خلوة يتعبد الله تعالى بما يعرفه، وعندما جاءته الرسالة كان من تعاليمها "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا" سورة المزمل. وهذا مفهوم ابتعد عنه الناس في عالم طغت فيه المادة حتى أن أحدهم ليهجر صلاته لأنه لا يوجد في جدول مواعيده وقت لها، وعندها يسأل أحدنا نفسه ما سر الضيق الذي يعاني منه الناس اليوم، إنه صراع الروح الذي لا يحله إلا هديه عليه السلام.
وإذا كان عليه الصلاة والسلام قدوة مطلقة للناس كافة فهو قدوة متخصصة لكل من أراد أن يكون له معلم مؤيد بالوحي، فهو قدوة للساسة يعلمهم أن العدل هو أساس الملك، كما جاء عند مسلم "أهل الجنة ثلاثة ومنهم ذو سلطان مقسط" ومن دعاماته الشورى التي أمر بها خير الناس المؤيد بالوحي كي لا يغتر أحد برأيه مهما بلغ من العلم "وأمرهم شورى بينهم". وقد نزل عليه السلام على رأي الأغلبية ولو كان مخالفا لرأيه في كثير من الحالات. وكان يقول لأصحابه "أشيروا عليَّ أيها الناس". وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بقومه رفيقا بهم حتى مع من خالفه. ففي السيرة كلنا يعرف زعيم النفاق في المدينة ابن أبي. فقد كان زعيم المدينة المتوج قبل هجرته عليه السلام فلما بايع الناس محمدا عليه الصلاة والسلام أرجف ابن أبي في المدينة وفعل الأعاجيب حتى وصل الحد ببعض الصحابة إلى اقتراح قتله فكان قوله عليه السلام "فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" إنها مدرسة عجيبة في احترام الاتجاه المعاكس الذي نتعلمه منه عليه الصلاة والسلام وهو من أركان الديمقراطية التي يفتخر بها الغرب علينا اليوم لأنهم عاشوها وتناسيناها كمسلمين.
إنه القدوة المطلقة للأباء والأزواج، للحكام والمحكومين، للقادة والجنود. هو نصير المرأة والرجل، جاء ليعلم الناس الطرق المؤدية بهم إلى الفلاح في الدنيا والآخرة. ونختم بقوله تعالى في سورة الأحزاب "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".